الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين .
يقول الله تبارك و تعالى: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ” الملك الآية 2 ] هو الذي خلق الموت والحياة وقدرهما على كل كائن في هذا الوجود ، فكل نفس ذائقة الموت ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا أي ليعاملكم معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم ، ويعلم أيكم أحسن عملا ، وأكثر إخلاصا ، وأبعد عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ، فالحياة محل الاختبار والتكاليف ، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء ، والغفور لمن تاب وأناب .
أيها الإخوة المسلون: لقد ابتلي الإنسان في هذه الحياة بعدو يقف له بالمرصاد وقد آلى على نفسه من اليوم الذي رفض فيه السجود لآدم ، أن يغويه بكل الوسائل ، وأن يقعد له على الصراط المستقيم ، ولذلك فهو عدو متربص ، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى منه بقوله : “يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ” فاطر 7 ] فمن عرف أن له عدوا يتربص به يجب عليه أن يكون دائما اليقظة ، لذلك يجب على المسلم أن يتسلح بسلاح الاستغفار ، فالاستغفار له مكانة عظيمة في الدين ، والمستغفرون عند الله أجر كريم ” وثمار الاستغفار ونتائجه الحميدة في الدنيا والآخرة لا يحصيها إلا الله ، ولهذا كثرت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية المرشدة إلى الاستغفار والمبينة لفضله وعظيم أجره “. يقول الله تعالى: “ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما …” النساء 110] ويقول:” والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين…” عمران 135] ويقول : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ….الأنفال 33 ] فالاستغفار مانع من موانع نزول العذاب ، وكان المستضعفون من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة من مكة ، يستغفرون الله ويسألونه : أن يخرجهم من القرية الظالم أهلها ، قال تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا….´النساء 75 ] وكان عبد ابن عباس رضي الله عنهما يقول :” كنت أنا وأمي من المستضعفين،إنا من الولدان ، وأمي من النساء“.
وعن سيدنا هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ” هود ] ويقول عن سيدنا نوح عليه السلام : ” فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا..13نوح 13] ولآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهي دالة على عظيم شأن الاستغفار، وتنوع فوائده وثمراته .
جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله :” أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال : استغفر الله ، وشكا آخر إليه عدم الولد فقال : استغفر الله ، ثم تلا عليهم قول الله عن سيدنا نوح: ” فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا…نوح 12] أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وسقاكم من بركات السماء وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع ، وأدر لكم الضرع ،وأمدكم بأموال وبنين ، أي أعطاكم المال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار ، وخللها بالأنهار الجارية بينها ، وفي هذا دلالة على عظم فوائد الاستغفار ، وكثرة خيراته ، وتعدد ثمراته .
وهذه الثمرات هي مما يناله العبد في دنياه من الخيرات والعطايا الكريمة ، والثمرات المتنوعة ، وأما ما يناله المستغفرون يوم القيامة من الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ، والرحمة والمغفرة ، والعتق من النار، والسلامة من العذاب ، فأمر لا يحصيه إلا الله . روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ) وسنده صحيح .وروى الطبراني في الأوسط عن الزبير رضي الله عنه : من أحب أن تستر صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ) وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بلال بن يسار بن زيد عن أبيه عن جده ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، غفر له ، وإن كان فر من الزحف ) وفي هذا الحديث دلاله على أن الاستغفار يمحو الذنوب ، سواء كانت كبائر أو صغائر ، فإن الفرار من الزحف من الكبائر . لكن ينبغي أن يعلم هنا أن المراد بالاستغفار ما اقترن بترك الإصرار، فهو حينئذ يعد توبة نصوحا تجب ما قبلها. أما إن قال المرء بلسانه : أستغفر الله ، وهو مقلع عن ذنب ، فهو داع لله بالمغفرة ، كما يقول : اللهم اغفر لي ، وهذا طلب من الله المغفرة ودعاء بها ، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء لله، ويرجى له الإجابة . وقد ذكر أهل العلم أن القائل : أستغفر الله وأتوب إليه ، له حالتان: الأولى : أن يقول ذلك وهو مصر بقلبه على الذنب فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليه ، لأنه غير تائب ، فإن التوبة لا تكون مع الإصرار من العبد على الذنب .
والحالة الثانية : أن يقول ذلك وهو مقلع بقلبه وعزمه ونيته عن المعصية ، وجمهور أهل العلم على جواز قول التائب: أتوب إلى الله، وعلو جواز أن يعاهد العبد ربه على ألا يعود إلى المعصية أبدا ، فإن العزم على ذلك واجب عليه ، فهو مخبر بما عزم عليه في الحال . وقد تقدم أن من شروط قبول التوبة العزم من العبد على عدم العودة إلى الذنب ، فإن صح منه العزم على ذلك قبلت توبته ، فإن عاد إلى الذنب مرة ثانية ، احتاج إلى توبة أخرى ليغفر له ذنبه ، ولهذا فإن العبد فإن العبد مادام كذلك،كلما أذنب تاب ، وكلما أخطأ استغفر، فهو حري بالمغفرة، وأن تكرر الذنب والتوبة .روى البخاري ومسلم عن أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى :قال : “أذنب عبد ذنبا ، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فقال : أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك “
أي مادمت تائبا أواها منيبا “. أي من غير إصرار، لأن الإصرار على الذنب يحول دون قبول التوبة فإن من شروط التوبة عدم الإصرار .
فهذه توبة مقبولة، وإن تكرر الذنب ، فإنه كلما كرر العبد التوبة مستوفيا شروطها ، قبلت منه ، أما الاستغفار بدون توبة فلا يستلزم المغفرة ، بل هو سبب من الأسباب التي ترجى بها المغفرة . ولا ينبغي للعبد أن يقنط من رحمة الله ، وإن عظمت ذنوبه وكثرت وتنوعت ، فإن باب التوبة والمغفرة والرحمة واسع فالله يقول : “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم “سورة الزمر 53] قال ابن عباس رضي الله عنهما : “من آيس عباد الله بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل “.
وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ” سورة البروج ]10]قال الحسن البصري رحمه الله :” انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياء وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة “. فما أعظم فضل الله! وما أوسع عطاءه ومغفرته! فنسأله سبحانه أن يشملنا بعفوه ، وأن يمن علينا بمغفرته ، إنه هو الغفور الرحيم . اللهم ثبتنا على الإيمان
اللهم ردنا إلى دينك ردا جميلا ، اللهم ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، اللهم أصلح لنا ذرياتنا ، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلهم من الراشدين يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم انصر المستضعفين في كل مكان اللهم كن لهم وليا ونصير ، اللهم اشف كل مريض ، ونفس عن كل معسر، وفرج كرب كل مكروب ، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين