.. أما بعد : فقد قال تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلآّ قليلاً ممن أنجينا منهم ) [ آية 116 : هود ] قال ابن كثير رحمه الله : أي : فهلاَ وُجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير يَنهون عمَّا كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات ؟! وقوله ( إلاّ قليلاً ممَّن أنجينا منهم ) يَعني : أنه قد وُجد مِن هذا الضرْب قليلٌ ـ وهم الذين أنجاهم الله تعالى عند حلول غضبه ونقمته ـ يُشير إلى قولهِ سبحانه : ( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذن الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون ) [ آية 165 : الأعراف ] !.
ولهذا أمرَ الله هذه الأمة أن يكون فيها مَن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقال : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صِمامُ أمان المجتمعات ! وفي الحديث ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه ) [ سنن ابن ماجة ] والذين يقومون بهذه الوظيفة في كل زمان ومكان هم الغرباءُ ـ وهم الذين ذكرَهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بقولهِ : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) [ مسلم ] زاد جماعة من أئمةِ الحديث قيل : مَن هم يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يَصلحون إذا فسَد الناس ) وفي روايةٍ ( الذين يَزيدون إذا نقص الناس ) ـ أي : يَزيدون إيماناً وتقوَى إذا نقص الناسُ من ذلك ـ وفي روايةٍ ( ناسٌ صالحون قليل في ناس كثير وَمن يَعصيهم أكثرُ ممن يُطيعهم ) وفي رواية ( الذين يُحيون سنتي ويعلمونها الناس ) وفي روايةٍ قال : ( الفرَّارون بدينهم ) وفي روايةٍ أخرى قال : ( النُّزَّاع من القبائل ) وفي الإجابة الأخيرة ما يُشير إلى أن الله تعالى بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ــ وأهلُ الأرض على أديان مختلفةٍ ما بين عبَّادِ أوثانٍ ونيرانٍ وصوَرٍ وصلبانٍ ــ فكان المستجيبون لدعوته ـ أولَ الأمر ـ نزاعاً من القبائل ـ بل آحاداً منهم ـ خالفوا عشائرهم وقبائلهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء ! حتى إذا ظهر الإسلام ودخل الناسُ فيه أفواجاً زالت عنهم تلك الغربة .. ثم مرَّ على الناس زمانٌ أخذ فيه الإسلام في الاغتراب ـ حتى عاد غريباً كما بدأ ـ وقد تكون الغربة الأخيرة أشدَّ من الأولى ! ولكنَّ الغرباءَ هم الغرباءُ لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم حتى يأتيَ أمرُ الله ..
ولهذا وَجدنا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قد أجاب عن سؤال أصحابه رضي الله عنهم بإجابات مُختلفةٍ في ألفاظها لكنها مُتحدةٌ في مَعانيها حيث قال مَرّةً : ( هم ناسٌ صالحون قليل في ناسٍ كثيرٍ ومن يَعصيهم أكثرُ ممن يُطيعهم ) وهذه سنة الله في خلقهِ وما سُميَ الغرباءُ إلاّ لقلتهم في الناس : فأهل الإسلام في الناس غرباءُ ! وأهل الإيمان في أهل الإسلام غرباءُ ! وأهل العلم في المؤمنين غرباءُ ! وأهل السنة فيمن يخالفونها غرباءُ ! والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين غرباءُ ! ولكنَّ هؤلاء هم أهل الله فلا غربة عليهم ـ أو أن غُربتهم من قِلتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم : ( وإن تطع أكثرَ من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله ) [ آية 116 : الأنعام ] !.
ولهذا لما خرج موسى ـ عليه السلام ـ هارباً من فرعون على الحال التي ذكر الله على لسانهِ ( ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقيرٌ ) وتذكر بعض الأخبار أنه قال رب : إني وَحيدٌ مريض غريبٌ ! فقيل له : يا موسى الوحيدُ مَن ليس له مثلي أنيسٌ والمريض من ليس له مثلي طبيبٌ ! والغريب من ليس بيني وبينه معاملة ! ومرةً قال : ( هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس ) وهذه صفة من صفات الغرباء التي غبطهم صلى الله عليه وسلم عليها ـ وهي التمسك بالحق وإن كثُرَ المخالفون ! والاعتصامُ بالسنة إذا رغب عنها الآخَرون ! وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً ! ومرة أخرى قال : ( هم الذين يُحيون سنتي ويُعلمونها الناسَ ) وهذه صفة أخرى من صفاتهم ـ وهي أعظمُ من الأولى ـ بل هي ثمرة من ثمراتها : فهم لم يكتفوا بالتمسك بالحق في خواصِّ أنفسهم بل كانوا يُنكرون ــ مع ذلك ـ على مُخالفيهم ما هم فيه وعليه من الشر والفساد داعين إيَّاهم إلى ترك ذلك إلى الخير والمعروف .. وعلى هؤلاء ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ) فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مُؤثرَة وإعجابَ كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بخاصةِ نفسك ودَع عنك العوامَّ فإن من ورائكم أيامَ الصبر ! الصبرُ فيهنَّ مثلُ قبض على الجمر للعامل فيهنَّ أجرُ خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قلت : يا رسول الله أجرُ خمسين منهم ؟ قال : أجرُ خمسين منكم ) [ أبو داود وغيره ] وهذا الأجرُ العظيم إنما هو لشدَّة الغربةِ وشدة آثارها على أهلها ! وقد قال صلى الله عليه وسلم يُبين أسبابَها ( لِأنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً ) وهذا المعنى لا يصدُق على ( السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ) ويصدق على مَن بعدهم من ( الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ) أجمعين ـ كما قال تعالى في موضع آخر ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاًّ وعد الله الحسنى ) [ آية 10 : الحديد ] !.
إذا عرَفنا مَن هم الغرباء ـ من خلال ما ذكرْنا من صفاتهم ـ فما هي الغربة ؟ الغربة ” حالة نفسية تنتاب الغريبَ بسبب الوحشة التي أوقعه فيها بُعدُه عن داره أو وطنهِ أو بسبب العزلة التي ألجأه إليها إيمانُه بخطأ ما عليه قومُه في الاعتقاد أو القول أو العمل ” وهي بهذا المعنى تنقسم إلى قسميْن : غربةٍ في الدار وغربة في الدِّين / أما غربة الدار : فلا تُحمد ولا تُذمَّ لذاتها لأن الناس جميعاً في هذه الدار دار الدنيا غرباءُ ! فالدنيا ليست بدار قرار لأحد ! ولكن يُحمد المُقامُ بمكان أو يُذَم تبعاً للحال التي يكون عليها المقيمُ بهذا المكان من خير أو شر ومن استقامةٍ أو انحراف .. قال تعالى : ( يَا عباديَ الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيايَ فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا تُرجعون ) [ آية 56 : العنكبوت ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي : نامَ في ظل شجرة ـ في يوم صائف ثم راح وتركها ) [ الترمذي وأحمد ] وقال ــ يُوصي بنَ عمر رضي الله عنهما : ( كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل ) وكان ابن عمرَ يقول : ( إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ) [ البخاري ] وأما غربة الدِّين فيُمكن تقسيمها إلى : غربةٍ مَحمودة وأخرى مَذمومةٍ / أما الغربة المذمومة فهي غربة أهل الباطل والفساد بين أهل الحق والصلاح ـ بغض النظر عن كثرتهم ـ وأما الغربة المحمودة : فهي غربة أهل الحق والخير بين أهل الباطل والشر ـ بغض النظر عن قلتهم ـ فليست العبرة بالقلة أو الكثرة إنما العبرة بالتمسك بالحق ـ بعد معرفته ـ فمن عرف الحق وتمسك به فهو الغريب المحمود ـ ولو كان وحده ! ومَن تنكر للحق أو أعرَض عنه فهو المذموم ـ ولو كان أمة ! ولهذا قال مَن قال من السلف : عليك بطريق الحق ولو قل السالكون ! وإياك وطريق الباطل ولو كثر الهالكون !.
والحاصل : أن مَن كانت حاله كحال الذين قال نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ( الذين يَصلحون إذا فسد الناس ) أو ( الذين يُحيون سنتي ويعلمونها الناس ) فهم مَغبوطون وغربتُهم مَحمودة ولهم طوبى يوم القيامة . وأما مَن كانت حالهم بخلاف ذلك فليسوا من الغربة والغرباء في شيءٍ !! وفي الحديث ( لا تكونوا إمَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا وإن ظلموا ألاَّ تظلموا ) [ الترمذي ] نسأل الله تعالى أن يُرينا الحق حقاً ويَرزقنا اتباعه وأن يُرينا الباطل باطلاً ويَرزقنا اجتنابه ـ آمين ـ والحمد لله رب العالمين .
وبعد : فإن الآثار في فضل الغربة والغرباء كثيرة ـ منها : ما رواه [ مسلم عن مَعقل بن يَسار رضي الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( العبادة في الهرْج كهجرة إليَّ ) والهرْج هو القتل ـ بغير وجهِ حق ! ومعنى الحديث : أن المُستميت أو المتمسك بدينه عندما يُفتَن الناس في دينهم ـ أو عندما يُقتلون بغير وجه حق ـ هو في درجة المهاجرين الأولين ـــــ أعني : الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة يومَ كانت الهجرة إليها مَفروضة ويومَ كانت المدينةُ وَحدها دارَ إسلام ــــ ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد أن فتح الله له مكة : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية ) وزيادةً في إيضاح مَعنى هذا الحديث الشريف نقول : إن الذي يؤمن بالله تعالى وبلقائه حين يكفر الناسُ .. والذي يُؤدي شعائر العبادة له سبحانه حين يتركها الناسُ .. والذي يجتنب الحرام حين يقع الناسُ فيه .. والذي يصدق حين يكذبون ويَعدل حين يظلمون ويؤدي الأمانة حين يخونون .. وإن التي تلتزم بلباسها الشرعي حين تتبرج الأخريات .. والتي تلزَم بيت زوجها وتتولى تربية أبنائها فيه حين تتخلى عن ذلك سواها من النساء .. وإن الذي يَدعو إلى الخير والمعروف في الوقت الذي يقوم فيه الآخرون بالترويج للفساد والمنكرات .. هو هو ـ وهي هي ـ في درجة المهاجر إلى الله عز وجل المرابطِ دون دينه العاضِّ عليه بالنواجذ ـ كما كان المسلمون الأول زمان الغربة الأولى ـ تلك الغربة التي أخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم أنها ستعود ! وأن القابض فيها على عُشر دينه كالقابض على الجمر !.
أقول هذا الكلام ــ أيها الإخوة ــ ليزيدَنا تردادُه وسماعُه ثقة بربنا وإيقاناً بلقائه وثباتاً على دينه عسى أن يَكتب لنا سبحانه أجرَ الغرباء ـ آمين ـ آمين ـ سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .