.. أما بعد : فإن الأسرة هي الحجرُ الأساس لبناء المجتمع السليم الذي يَنشُده الإسلام وَيدعو إلى تكثير سواده .. وذلك لأن الأسرة هيَ الوسَط الذي يَقضي فيهِ الطفل أيامه أو أعوامَه الأولى .. وفيه يتلقَّى رصيده من الحبِّ والحنان والثقة .. ومنه يتعلم التعاون والتكافل وكلَّ ما يَلزَم لبناء شخصيتهِ المُتوَخَّى أن تصبح في المستقبل إيجابيَّة ونافعة .. وتلكم الغاية التي يعملُ ـ أو ينبغي أن يعملَ ـ لها الزوجان ـ وهما ركنا الأسرة الأساسيان ـ غيرَ أن هذه النتيجة لا تأتي دائماً كما يُريدان ـ أو يتمنيان ! ولذلك أسبابه التي تَرجع إلى كسْبهما ! يُصوِّر هذه النتيجة المتباينة قولُه تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسناً .. حتى إذا بلغ أشدَّه وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه .. والذي قال لوالديْه أفٍّ لكما أتعداننيّ أن أخرَج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلاّ أساطير الأولين ) [ آية 14 ـ 15: الأحقاف ] وَهو ـ بعد أن يُوصِيَ الولدَ بالإحسان إلى والديْه ويُذكرَه بفضلهما عليه وبخيْرهما السابق إليهِ ـ يَعرض نتيجة سَعْي الوالديْن مُتمثلةَ في نموذجيْن اثنيْن / صالح وفاسد :

 

يُمثل للأنموذج الصالح قولُه : ( حتى إذا بلغ أشدَّه وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك .. وأن أعمل صالحاً ترضاه .. ) فهذا الولد لما بلغ غاية رُشده شعَر بعِظم نعمةِ ربِّه عليه وعلى والديْه فتوجَّه إليه يدعوه أن يُعينه على جمْع قوَّاه ليستعملها في واجب الشكر له وأن يُوفقه للعمل الصالح الذي يُرضيه ويُصلح له في ذريته ـ وهو أغلى ما يتمناه الإنسان الصالح ـ  كما قال تعالى ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرِّيَّاتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) .. ويُمثل للأنموذج الفاسد قوله : ( والذي قال لوالديْه أفٍّ لكما أتعدانني أن أخرَج .. ) وأولُ ما يفاجِئ في هذا الولد عقوقُه لوالديْه المؤمنيْن وجحودُه بِرَّهما وإحسانَهما إليه ـ بدليل خطابهِ لهما بالقول الوَقِح ( أف لكما ) ! ثم يُمعن هذا الولدُ في الكفر والجحود حتى يَجحد الآخِرة بالحجةِ الواهيةِ : ( أتعدانني أن أخرَج وقد خلت القرون من قبلي ) يريد : أنهم ذهبوا ولم يَعُد منهم أحدٌ ! والوالدان يفزَعان لما يَسمعان من ولدهما من الكفر بالله تعالى والعقوق لهما ويَهتفان بهِ : ( ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلاّ أساطيرُ الأولين .. ) !.

 

تلكم نتيجة سَعْيِ الوالدِين ـ معَ أولادهم ـ بشِقيْها الحُلو والمُرِّ ! وكما يُسرُّ الإنسان ويفرح للنتيجة السارَّة يأسى ويَحزن للنتيجة المُرَّة ـ لكن غالباً بعد فوات الأوان ! وهنا نتذكر نداء نبيِّ الله نوح ـ عليه السلام ـ لوَلده قبل لحظات من هلاكهِ ( ونادى نوح ابنه وكان في مَعزل يابنيِّ اركبْ مَعنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) وإذا بالموج يحول بينه وبينه : ( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) ومن هنا : وَجب أن يكون الخوفُ على مَصير الولد من هذه النهاية السَّيئةِ ـ مع الأخذ بالأسباب التي توصله ـ  بإذن الله ـ إلى النهايةِ السعيدة ـ همَّ كل أب وكلِّ أم حريصَيْن على خيْر وَلدهما !.

 

وهذا إبراهيم عليه السلام تأتيه البشرى من ربه بالإمامةِ ـ بعد أن وفَّى وأتمَّ ما كلفه الله بهِ ( قال إني جاعلك للناس إماماً ) ـ وهو مشغول بأمر الذريَّة ومهمومٌ بشأن مصيرهم الدينيِّ ــ ولهذا بادر ربَّه بالسؤال ( ومن ذريتي ) ؟ إنه يُريد أن تستمرَّ هذه الإمامة في ذريته من بعده ؟ وهذا حفيده يعقوب عليه السلام لمَّا جاءه البشيرُ بخبَر ولده يوسفَ عليه السلام سأله : كيف تركته ؟ قال : تركته وزيراً للمالية في مصر ! قال : ليس عن هذا أسألك ؟ قال : فعن ما ذا تسأل ؟ قال : أسألك عن الدِّين ! فقال له البشير تركته على الإسلام .. وهنا قال سيدنا يعقوب : الآن تمت النعمة !.

 

إن الأمر جِدٌّ لا هزل فيه : ومَن خاف أدلج ! ومن أدلج بلغ ! وإنما النجاة ـ بعد عون الله ـ في التربية ثم التربية ! وتربية الأولاد عملية شاقة وطويلة وتحتاج في هذه البلاد ـ خاصة ـ إلى جهد مُضاعَف ! ويكفي لندرك أن التربية صعبة ومُتعِبة أن نتدبَّر قوله تعالى عن مَريم ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) تأمل ( وأنبَتها ) تجد أن التربية شبيهة بعمليةٍ زراعية فيها حرثٌ وغرسٌ وسقيٌ ونقشٌ .. إلى أن يستويَ الزرع على سُوقهِ .. إن صلاح الذرية لا يتحقق بالأماني ! وليس هناك شيءٌ من لا شيء ! نعم قد يَجود الشوك بالوَرد وقد يَخرج صالح من طالح ! ولكن هذه ليست هي القاعدة ! القاعدة هي ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلاّ نكداً ) القاعدة هي ( فأبواه يُهوِّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وإذا كان الناس على دين ملوكهم ـ كما يُقال ـ فإن الأبناء على دين آبائهم وأمهاتهم !.

 

وهنا نصل إلى السؤال المطلوب : بِمَن نبدأ في التربية ؟ بالأبناء أم بالآباء ؟ والجواب واضح ـ وهو البدءُ بمَن يباشر عملية التربية ـ وهم الآباء والأمهات ـ  ونقصد بتربية الآباء والأمهات أن يَسعوا هم أنفسُهم لِاستكمال النقص فيهم تعلماً وعملاً : فمَن فاته أن يتعلم مَا يلزمه لدينه في صغره فعليه أن يسعى لتحصيل ذلك الآن ! ومَن كان ابتُليَ بآفةٍ كآفةِ التدخين ـ مثلاً ـ خلال مراهقته فعليه أن يجتهد للتخلص منها اليومَ ـ قبل الغد ! ومَن كان مُتهاوناً في أداء واجباتهِ الدينية ـ فعلاً أو تركاً ـ فعليه أن يضع حداً لذلك فوراً ـ حتى يكون عند الآباء والأمهات ما يُعطونه لأبنائهم وبناتهم ـ وإلاّ فإن فاقد الشيء لا يُعطيه ! ومَن عجز عن تربية نفسه وإصلاحها فهو عن تربية وإصلاح غيره أشدُّ عجزاً ! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يقوم بدعوة الناس إلى الإيمان به وبما أنزل إليه ـ آمن هو بذلك ! قال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ) فالمؤمن الأول في هذه الأمة ـ على التحقيق ـ هو نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وليس أبا بكر رضي الله عنه .. ألاَ إن المرء قبل الزواج ـ من حيث المسؤولية ـ ليس كالمرء بعد الزواج ! وإن المرء ـ بعد إنجاب الذرية ـ ليس كالمرء قبله ! وإن الأب والأم ـ شاءا أم أبيَا ـ هما مُربِّيان لأولادهما ــ وذلك بالحال قبل المقال ــ فإذا كان مقالهما حسناً وحالهما مَرضية كانا مفتاحيْن للخير ودالَّيْن عليه ـ والعكسُ بالعكس !.

 

وقد يقال : إن للتربية طرُقاً ووسائل فما هي أجدَى طريق وأنجعُ وسيلة لتربية الأولاد ؟ والجواب : نعم هناك طرُق عديدة للتربية ـ منها / التربية بالعادة ـ والأصل فيها حديثُ الأمر بالصلاة ( مُروا أولادكم بالصلاة .. ) فإن تكرار الأمر بالعبادة لثلاث سنوات كفيل بغرْسها في نفس الولد حتى تصبح لديه عادة.. ومنها / التربية بالملاحظة وهي المتابعة لأداء الولد التي يَعقبها التوجيهُ المناسب في الوقت المناسب ـ والأصل فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي قال لصاحبه يا ابن السوداء ( إنك امرءٌ فيك جاهلية ) ومنها / التربية بالإشارة : كأن يُخطئ الولد أمام الضيوف ـ مثلاً ـ فإنه يُكتفَى في توجيهه بالإشارة .. إلاَّ أن أهدى هذه الطرق جميعاً هي التربية الصامتة / أعني : التربية بالقدوة الحسنة ـ بأن تكون أفعالُ الوالديْن والمربَّين وتصرُّفاتُهم وسلوكهم اليوميُّ مِثالاً حيّاً وأنموذجاً صادقاً لأقوالهم ـ وهي الطريق التي ربَّى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بها أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فهو إنما بُعث معلماً ! ولم يكن هدفه من تعليم أصحابه إلاّ تحويلَ ما تعلموه منه إلى أعمال نافعةٍ وخصال حميدةٍ في واقع الناس وكذا كان أصحابه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فإنهم لمَّا آمنوا به وأحبُّوه وصحِبوه وعاشروه انعكسَت أخلاقه عليهم ـ لأنه كان قدوة حسنة لهم !.

 

ومن هنا : كان الذي يقول ولا يفعل ممقوتاً عند الله ! قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وذلك لِما لِحال المربِّي وسلوكهِ من تأثير على المربَّى ـ وخصوصاً على الطفل ـ فأن الطفل لا يُفرق بين المبدأ والشخص ! ولا يفهم مَقولة ” اِجْن الثمار وخل العُود للنار ” ! بل كل ما يفعله المربِّي هو في نظر الطفل جميل ! ولهذا قيل : لا يستقيم الظل والعُود أعوج ولابن القيم كلامٌ نفيس في هذا الصدد يقول رحمه الله : ” علماء السوء وقفوا على أبواب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم ويدفعونهم عنها بأفعالهم ! فإذا قالت أقوالهم : هلمُّوا قالت أفعالهم : ارجعوا ! فلو كان خيراً ما يدعونكم إليه لكانوا أول العاملين به ! فهم في الصورة أدلاءُ على الله وفي الحقيقة قطاعُ طرُق ” ! وهذا الكلام لا يخص العلماءَ ـ بل ينطبق على كل مَن يمارس التربية والدعوة يُكذب قولَه فعلُه ! والناس في ذلك مُتفاوتون : فالوالد الذي يأمر ولده بالصلاة وهو لا يُصلي ! أو يَنهاه عن التدخين وهو يدخن ! أو يريده أن يكون مُجتهداً في تحصيل العلم ـ وهو أزهد الناس فيه ! لا يصلح للتربية ! بل غالباً ما تأتي تربيته بنتائج معكوسة ! ولذا : وجب على كل أب أو أم أو مربٍّ أن يُراقب نفسه في كل حركة أو سكون يبدُر منه لأن ذلك مَرصودٌ ومَحسوبٌ له أو عليه : إما مُرغبٌ للآخَر في الخير أو مُنفرٌ له عنه !.

 

ثم أما بعد : فإن الوالديْن ـ مهما اجتهدا في إصلاح نفسيْهما ـ يبقيان مُعرَّضيْن للتقصير والخطأ ـ والعصمة لا تكون إلا لنبيٍّ ! ولذا وجب على الوالدِين والمربين ـ إذا بدَر من أحدهم خطأ أمام الأولاد ـ أن يَعترف بخطئه لأن تسويغ الخطأ وتبريرَه تربويَّاً أمرٌ قاتل ! وقد قال تعالى ـ على لسان سيدنا شعيبٍ عليه السلام : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقيَ إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) هذا والله وَحده الموفق والهادي إلى أقوَم طريق ـ وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .